لطالما أسرت فكرة المدن الذكية مخيلتنا لعقود، حيث ترسم صورة لحياة حضرية تندمج فيها التكنولوجيا بسلاسة مع الروتين اليومي لتعزيز الكفاءة والاستدامة، وتحسين نوعية الحياة بشكل ملموس. هذا الزخم العالمي نحو مدن المستقبل بلغ ذروته مؤخراً في قمة دولية رفيعة المستوى، حيث تضافرت الجهود لوضع خارطة طريق شاملة لتحويل هذه الرؤى الطموحة إلى واقع ملموس. يبدو أننا نقف اليوم على أعتاب حقبة جديدة من التخطيط الحضري المبتكر.
ما أثار إعجابي بشكل خاص في التوجهات المعلنة هو التركيز ليس فقط على البنية التحتية التكنولوجية المتقدمة، بل على المكونات الإنسانية والبيئية الجوهرية للمدن. فالإطار الجديد، كما يبدو، يشدد على أهمية دمج التقنيات الخضراء للحفاظ على موارد الكوكب، بالإضافة إلى تعزيز مشاركة المجتمع المحلي في صياغة ملامح مدنهم. هذا التوازن بين الابتكار الرقمي والمسؤولية الاجتماعية والبيئية يبشر بمستقبل حضري أكثر شمولاً واستدامة، وهو ما يبعث على التفاؤل الحذر بشأن قدرتنا على بناء مجتمعات أفضل.
لكن الصورة ليست وردية بالكامل، فبينما تتسابق الدول المتقدمة لتبني هذه المفاهيم الطموحة، تلوح في الأفق تحديات مالية ضخمة قد تعرقل مسيرة الدول النامية نحو تحقيق هذا الحلم. إن تكلفة تطوير البنية التحتية الذكية، من شبكات استشعار وإنترنت الأشياء إلى أنظمة الطاقة المتجددة، باهظة للغاية، مما يضع عبئاً لا يستهان به على اقتصادات تعاني أصلاً من ضغوطات جمة. هنا يكمن مفترق الطرق الحقيقي: كيف يمكننا ضمان ألا تصبح "المدن الذكية" امتيازاً حصرياً للأغنياء، بل حقاً للجميع؟
من وجهة نظري، يتطلب تجاوز هذه الهوة المالية ليس فقط ضخ المزيد من التمويل، بل إعادة التفكير في نماذج الشراكة والابتكار. يجب أن نعمل على تطوير حلول ذكية "محليّة" تتناسب مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية لكل منطقة، بدلاً من استيراد نماذج جاهزة باهظة التكلفة. كما أن الدور المحوري يقع على عاتق المجتمع الدولي في توفير آليات دعم وتمويل مستدامة تضمن العدالة في الوصول إلى التقنيات، وتُمكن الدول النامية من بناء قدراتها الذاتية في هذا المجال. فالتكنولوجيا يجب أن تكون أداة للتمكين، لا فجوة جديدة تزيد من التفاوت.
في الختام، إن رؤية المدن الذكية المستدامة تحمل في طياتها وعداً بتحسين نوعية حياة الملايين حول العالم، وتوفر فرصة لا تقدر بثمن لإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان وبيئته العمرانية. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا الوعد يتطلب أكثر من مجرد خطط طموحة؛ إنه يتطلب إرادة سياسية عالمية حقيقية، وتضامناً دولياً لمواجهة التحديات المالية، وتركيزاً لا يتزعزع على الشمولية والعدالة. إن مستقبل مدننا يعتمد على قدرتنا على تحويل التحديات إلى فرص، وضمان أن يشارك الجميع، دون استثناء، في بناء غدٍ أفضل وأكثر ذكاءً.
.jpeg)